الإصلاح بين الناس.. سلوك إسلامي لوأد الخلافات في مهدها

حوارات
طبوغرافي

من أفضل السلوكيات الراقية التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإصلاح بين الناس» فهو سلوك أصحاب النفوس العالية الذين يحبون للآخرين ما يحبون لأنفسهم، ويعملون على تحقيق أمن واستقرار مجتمعاتهم، لأن التخاصم والتنازع بين أفراد المجتمع يؤدي حتما إلى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون». ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان عليه الصلاة والسلام يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد رضى الله عنه أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم. وفي رواية قال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم».


تقول أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً» وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها».


كما قال صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين».. ففي وصايا الرسول وسلوكه العملي دعوة نبوية كريمة إلى «الإصلاح بين الناس» حتى يعيشوا في أمان واطمئنان.


يقول د. أحمد عجيبة أمين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: من أبرز مظاهر الأخوة الإسلامية الإصلاح بين الناس، ومن هنا فإن من واجب كل مسلم العمل على ترسيخ هذه المظاهر، وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا السلوك الإنساني وحرص على نشره بين المسلمين وحثهم على ذلك.. فقد أرسله الله رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم.


واقع مؤسف
ويضيف: كثير من المسلمين للأسف نسوا أو تجاهلوا وصايا رسولهم الكريم التي تجسد على أرض الواقع رباط الأخوة الإسلامية، ولم يدرك الكثيرون أن الإصلاح بين كل مسلمين متخاصمين أو طائفتين متشاجرتين واجب تمليه أخوة الإيمان.
من الطبيعي أن تكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، وتضارب المصالح، وهذا ما يسبب البغضاء والعداوات، ويفرق بين المسلمين ويبث الشقاق بين أهل القرابات.. لكن غير الطبيعي أن يقف المسلم متفرجاً على يرى من منازعات ومشاجرات تؤدي في الغالب إلى ما لا تحمد عقباه، حيث انتشرت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية جرائم القتل والعنف الدامي بين الناس لأسباب تافهة ولو عمل كل مسلم بتوجيهات رسوله الكريم وسعى إلى الإصلاح بين المتخاصمين والمتشاجرين بكل ما يستطيع من وسائل مشروعة لمنع الكثير من هذه المصائب.


لذلك يدعو د. عجيبة المسلمين في كل مكان إلى السعي في الإصلاح بين الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا قبل أن تتطور المشاجرات والمنازعات وتصل إلى أجهزة التحقيق وتشغل القضاء الذي ينبغي أن يتفرغ القضاة لتحقيق العدالة في قضايا مهمة، وهذا ما تنبه له الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كتب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه التدخل لإنهاء المنازعات قبل أن تصل إلى ساحة القضاء وقال له: (رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن).


ويطالب د. عجيبة كل مسلم بأن يضع قول الحق سبحانه: «وأصلحوا ذات بينكم» نصب عينيه دائماً، وأن يتخلى عن السلبية والأنانية ويبادر بتطبيق النداء الإلهي فيما يراه حوله من أحوال الشقاق والافتراق سواء في محيطه الأسرى بين الأهل والأقارب، أو في محيط العمل بين الزملاء، أو في المحيط العام فيما يراه في الطريق العام من خلافات ومشاجرات بين الناس.
وهنا يحث كل المتشاجرين والمتنازعين على الاستجابة الفورية لمحاولات الإصلاح ويذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً» وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثني فيغفر الله عز وجل في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: «أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا».
ولذلك يقول العالم الأزهري لكل متشاجر أو متخاصم: كن متسامحا وإذا جاء إليك أخوك معتذرا فأقبل معذرته؛ واسع أنت إلى إنهاء الخصام وإن كان لك الحق، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (أعقل الناس أعذرهم لهم) وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلى في أذني الأخرى لقبلت عذره).


أجر عظيم
يؤكد الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر أن الإصلاح بين الناس فضيلة تحتاج إليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية الآن وذلك حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم.


ويضيف: الإصلاح بين الناس من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، أن أجره كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفوق كثيراً ما يناله الصائم القائم، المشتغل بأمر نفسه فقط، يقول عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة»، ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين.. كما قال صلى الله عليه وسلم: كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة.. وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. وقوله: تعدل بين الاثنين.. أي: تصلح بينهم بالعدل.


وينبه قطب إلي أن الإصلاح بين الناس يحتاج إلى حكمة وصبر وإخلاص، ويفضل أن يتم في السر حتى لا يعاند المتشاجرون والمتنازعون فكلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من حدة الخلاف ويضاعف من المشكلة لو تصرف برعونة، والله سبحانه وتعالى يحدد لنا الأسلوب الأمثل للإصلاح فيقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً».


والكذب في الإصلاح بين الناس، يكون عن طريق تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقواله بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: «فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا» ونحو ذلك.