مع المشتاقين إلى القرآن

معية الحبيب
طبوغرافي

تحدثنا في الدرس السابق عن المشتاقين إلى الله، وفي هذا الدرس بفضل الله تعالى، نعيش مع المشتاقين إلى القرآن الكريم.

ونقصد أيها الأحباب بالمشتاقين إلى القرآن الكريم: البكائين عند سماعهم للقرآن، والخاشعين عند قراءتهم له، والذين أثّر القرآن في نفوسهم فصارت كل حياتهم قرآنًا، فكانوا يعيشون بالقرآن، ويعيشون على القرآن، فهو لهم خير زاد.

ولقد اشتمل هذا الكتاب العزيز على عجائب، وحكم وأمثال وأخبار، لو خوطبت بها الحجارة لتشقَّقت. قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

قال الإمام النووي رحمه الله: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين، قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} وقال تعالى : {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}، ولقد كان السلف رضي الله عنهم غزيرة دمعتهم إذا قرءوا كتاب الله تعالى .

اسمحوا لي أن أرحّب بهؤلاء الذين أذاب القرآن قلوبهم، وصاغ القرآن الكريم أخلاقهم، وهذب حياتهم، وملأها بالعمل وبالأمل، فصاروا دائمًا في شوق مستمر إليه لا ينقطع، فكانت حياتهم كلها قرآنًا مع قرآن، ونورًا على نور.

هؤلاء المشتاقون علمهم النبي صلوات ربي وسلامه عليه كيف يخشعون مع القرآن الكريم، { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105 ]

دعونا نأخذ أمثلة لهؤلاء المشتاقين إلى القرآن الكريم..

عبد الله بن عمر رضى الله عنه:

قرأ ابن عمر رضي الله عنهما: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ سورة المطففين :1 ] فلما بلغ: { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين :6 ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده.

وعن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد / 16 ] بكى حتى يغلبه البكاء.

عائشة رضى الله عنها:

قال مسروق رحمه الله : " قرأت على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت " ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم " .

تميم الدارى رضى الله عنه:

قرأ تميم الداري رضي الله عنه ليلة قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] فصار يُردِّدها ويبكي حتى الصباح.

سفيان الثورى رحمه الله:

وقال خالد بن الصقر السدوسي: كان أبي خاصًّا لسفيان الثوري، قال أبي: فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر، فأذنت لي امرأة، فدخلت عليه وهو يقول: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } [ سورة الزخرف :80 ] ثم يقول: بلى يا ربّ ! بلى يا ربّ ! وينتحب، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل، فمكثت جالسًا كم شاء الله، ثم أقبل إليّ، فجلس معي. فقال: منذ كم أنت ها هنا! ما شعرت بمكانك!

عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

حدّث من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة: أن رجلاً قرأ عنده: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [ الفرقان: 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه! فقام من مجلسه، فدخل بيته، وتفرَّق الناس.

سالم مولى أبى حذيفة:

كان سالم - رضي الله عنه- إمامـًا للمهاجريـن من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء وكان فيهم عمر بن الخطاب وذلك لأنه أقرأهم، وأوصى الرسـول - صلى اللـه عليه وسلم- أصحابه قائلًا: ( خذوا القـرآن من أربعـة: عبدالله بن مسعـود، وسالم مولى أبى حذيفـة، وأبي بن كعب، ومعـاذ بـن جبـل )

وعن عائشة - رضي الله عنها- أنّها قالت: ( احتبستُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: ( ما حَبَسَكِ ؟) قالت: ( سمعت قارئاً يقرأ ) فذكرتُ من حُسْنِ قراءته، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رِداءَه وخرج، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة فقال: ( الحمدُ لله الذي جعل في أمتي مثلك ) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( إن سالمًا شديد الحبِّ لله، لو كان ما يخاف الله عزّ وجلّ، ما عصاه )

وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- يجلّه، وقال وهو على فراش الموت: ( لو أدركني أحدُ رجلين، ثم جعلت إليه الأمرَ لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح )

كان فزعٌ بالمدينة فأتى عمرو بن العاص على سالم مولى أبي حذيفة وهو مُحْتَبٍ بحمائل سيفِه، فأخذ عمرو سيفه فاحتبى بحمائله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس ! ألا كان مفزعكم إلى الله وإلى رسوله) ثم قال: ( ألا فعلتم كما فَعَل هذان الرجلان المؤمنان)  

منصور بن عمار رحمه الله:

منصور بن عمار بن كثير، الواعظ البليغ، الصالح الرباني، أبو السري السلمي الخراساني، كما قال عنه الذهبي، وقيل: البصري، كان عديم النظير في الموعظة والتذكير.

ذكر أبو نعيم في الحلية: قال منصور بن عمار: حججت حجة، فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي، وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي، وغرّني سترك المرخى عليَّ، وقد عصيتك بجهدي، وخالفتك بجهلي، ولك الحجة عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصلُ إذا قطعت حبلك مني؟ وا شباباه، وا شباباه، قال: فلما فرغ من قوله، تلوت آية من كتاب الله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم: 6) الآية، فسمعت حركة شديدة، ثم لم أسمع بعدها حسًا، فمضيت، فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي، إذا بجنازة قد وضعت، وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني فقالت: هذا رجل لا جزاه الله إلاّ جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي، فتلا آية من كتاب الله، فلما سمعها ابني، تفطرت مرارته، فوقع ميتًا رحمه الله. وعن حضوره إلى مصر ودعائه جاءت بعدة روايات.

رحم الله منصور بن عمار ذاك الولى والعبد الصالح المشتاق إلى الله تعالى وإلى رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولمشتاق إلى القرآن الكريم.

محمد بن كعب القرزي رحمه الله:

هو محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني. ومنسوب إلى بني قريظة الطائفة المعروفة من اليهود، وأورده أصحاب السير في الطبقة الثانية من التابعين. سكن الكوفة ثم المدينة.

كان محمد بن كعب يقول: لئن أقرا في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما واردد فيهما الفكر أحب إلي من آن أهد القران هدا أو قال: انثره نثرًا. وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} فقد حبس لسانه عن كل الكلام إلا ذكره ولرخص للرجل الذي يكون في الحرب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}.

وكان ثقة عالما كثير الحديث ورعًا، وكانت أمه تقول له: يا بني، لولا أني أعرفك صغيرًا وكبيرًا طيبًا، لظننت أنك أحدثت ذنبًا موبقًا لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار. قال: يا أماه وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علىَّ وأنا في بعض ذنوبي فمقتنى فقال: اذهب لا أغفر لك مع أن عجائب القرآن تورد على أمورًا حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي. ويقول عون بن عبد الله: ما رأيت أحداً أعلم بتأويل القرآن من القرظي وقيل كان له أملاك بالمدينة وحصل مالا مرة فقيل له ادخر لولدك قال لا ولكن أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي وقيل إنه كان مجاب الدعوة كبير القدر.

هؤلاء الأعلام ليسوا فقط من أهل القرآن، وإنما القرآن يسري في قلوبهم، يعيش في أرواحهم.

محمد بن المنكدر مع القرآن:

ذلك التابعى والعالم الربانى والمحدث والفقيه، والبكاء عند سماعه للقرآن الكريم.

كان ابن المنكدر من المجتهدين في العبادة فيقول: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، وبينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى فكثر بكاؤه، حتى فزع له أهله وسألوه فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه فقال: ما الذي أبكاك قال: مرت بي آية قال وما هي قال: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما.

وعن سعيد بن عامر قال: قال ابن المنكدر: إني لأدخل في الليل فيهولني فأصبح حين أصبح وما قضيت منه أربي. وعن عمر بن محمد المنكدر قال: كنت أمسك على أبي المصحف، فمرت مولاة له فكلمها فضحك إليها ثم أقبل يقول: إنا لله إنا لله حتى ظننت أنه قد حدث شيء فقلت: مالك؟ فقال: أما كان لي في القرآن شغل حتى مرت هذه فكلمتها.

وعن سفيان قال: كان محمد بن المنكدر ربما قام من الليل يصلي ويقول: كم من عين الآن ساهرة في رزقي.

وكان محمد بن المنكدر بارًا بأمه، فكان يضع خده بالأرض ثم يقول لأمه قومي ضعي قدمك على خدي، وقال: بات عمر يعني أخاه يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.

وقد كان لمحمد بن المنكدر أثرًا بينًا في تربية الآخرين فعن ابن الماجشون قال: إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني، وقال مالك: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة آتى ابن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأبغض نفسي أيامًا. ورأى محمد بن المنكدر رجلاً واقفًا مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.

من كلماته: قال محمد بن المنكدر: أرأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر وقام الليل لا ينام وتصدق بماله وجاهد في سبيل الله واجتنب محارم الله، غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال: إن هذا عظم في عينه ما صغره الله، وصغر في عينه ما عظمه الله، كيف ترى يكون حاله؟ فمن منا ليس هكذا؟ الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا.

وقيل لمحمد بن المنكدر: أي العمل أحبُّ إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. قيل: فما بقي مما يُستلذّ؟ قال: الإفضال على الإخوان.

وقال رحمه الله: كابدت نفسي أربعين عامًا ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي.

أحبابي، ولازال لدي الكثير والكثير من هؤلاء المشتاقين إلى القرآن الكريم، تلكُم الصّحبة الجميلة الجليلة العظيمة التي كنا في رحابها وضيافتها في هذا اللقاء، لكن الموضوع لم يكتمل، فهؤلاء شوقهم إلى الله عزّ وجلّ في الأساس الذي حدثتك عنه في الدرس الماضي جعل شوقهم إلى القرآن الكريم لا ينقطع، وجعل بكاءهم عند سماعه أمرًا أساسيًّا عندهم، فرزقهم الله حبّ القرآن وخلّقهم بأخلاق القرآن وأدبّهم بآداب القرآن.

حلاوة الشوق لا تنتهي، رحلات الحنين إلى القرآن الكريم لا تنتهي، إني مشتاق إلى قوله تعالى في سورة الرحمن: { فبأي آلاء ربكما تكذبان} إحدى وثلاثين مرة، كيف لا أشتاق إلى سورة الرحمن؟! وإني مشتاق إلى سورة القمر، { فهل من مدّكر} خمس مرات، كيف لا أشتاق إليها؟! إني مشتاق إلى سورة النمل، {أإله مع الله} خمس مرات، وكيف لا أشتاق إليها؟! إني مشتاق إلى {ربنا} وتكرارها في خواتيم سورة آل عمران، وكيف لا أشتاق إليها؟!

هكذا قال محمد بن كعب القر ظي: عجائب القرآن أطرنَ النوم من عينيّ.

كنا في هذا الدرس في ضيافة المشتاقين إلى القرآن، والدرس القادم تكملة لكن بطعم جديد، طعم أشدّ حلاوة مما كنت عليه اليوم، سأتكلم مع شهداء القرآن.

 أيها الأحباب الكرام.. من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن ، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، قال خباب بن الأرت لرجل: تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه . وفي " الترمذي " عن أبي أمامة مرفوعا: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" يعني القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم .

قال عثمان رضى الله عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.

وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أحب القرآن أحب الله ورسوله.

وقال بعض العارفين لشيخهم: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، واغوثاه بالله! شيخ لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟ فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه عزّ وجلّ؟

 كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره، فرأى في المنام قائلا يقول له:

إن كنت تزعم حبي فلم جفوت كتابي؟ أما تأملت ما فيه من لطيف عتابي؟

 ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

وصلّ اللهمّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ..

 

من برنامج في معية الحبيب، أ.د/ أحمد عبده عوض.. الداعية والمفكر الإسلامي..