ربانية أهل الإجابة

معية الحبيب
طبوغرافي

الربانية معنى جميل في معاني اليقين، ومعنى جميل في معاني سرعة الإجابة من الله تعالى، وما كان الله تعالى يستجيب لأحد  على الفور إلا إذا كان هذا العبد ربانيا، أو كانت هذه المرأة ربانية، فمن خدم لله بصدق فإن الله تعالى يسبب له الأسباب التي لا تُسبب لغيره، ويعطيه الله تعالى من الآيات البينات، والتأييد الظاهر والباطن الذي لا يعطى لباقي البشر.

وتلكم هذه الحالة هي الربانية، يعي أن يكون العبد عبدا ربانيا، لا دنيويا، ولا دائرا في دائرة الشهوات، ولا في دائرة الغفلة، أو السفسطة، أو التعالي على الناس، أو التكبر، أو الرياء، أو المظهرية، كل هذا يختفي، وينتفي، وتظهر هذه الحقيقة عند ربانية أهل الإجابة، قال تعالى: { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

إني أحب أن أعايش هؤلاء القوم الكبار، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ربانية عالية، حياة ربانية، حياة الإخبات، لم يعرفوا دنيا، ولم يعيشوا للدنيا، حُق لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن يكون مستجاب الدعوة، لأنه كان ربانيا، تصدق بـثلاثين ألف دينار، وجهّز جيشا عظيما في سبيل الله.

حُقّ لسيدنا عمر رضي الله عنه أن يكون ربانيا لأنه لم يعرف للدنيا طريقا أو مدخلا إلى قلبه ولا حواسه، عاش لله، ومات لله، وجعل الدنيا التي حيزت له تحت قدميه.

 

الرّبانية في الإسلام:

 الربّانيّ هو العارف بالله عزّ وجلّ، والمنسوب إليه، والقريب منه، و المملوء قلبه بالإيمان. تُحدّد قوّة صلة العبد بربّه بمقدار ابتعاده عن جواذب الأرض، وارتقائه بقلبه وروحه نحو السماء؛ فالإنسان مكوّنٌ من روحٍ وجسد؛ هذا الجسد له متطلّبات وشهوات تجذبه نحو الأرض، وكلّما تخلّص منها وتحرّر من حب الدنيا ارتفع إلى السماء وازدادت بذلك صلته بخالقه، لأنّه انقطع عن شواغل الأرض، وسما بقلبه عنها.

 صفات الرّبانيين:

 أصحاب قلوبٍ حيّة، تتجاوب في شعورها مع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتتأثّر بالمواعظ، و تضطرب وَجَلًا ووَجْدًا عند ذكر الله سبحانه وتعالى، وتخشع في لينٍ وسكون بمعرفة الله عزّ وجلّ فتخشع بذلك سائر الجوارح.

 هم المؤمنون؛ قلبًا وقالبًا، صلاحُ باطنهم ينعكس على ظاهرهم، ونجد ذلك في أخلاقهم ومعاملاتهم، فيهم الصدق، والأمانة، والبر، والإحسان، والحِلم، والعدل، والرّفق، والعزّة، والحكمة، والرّحمة وغيرها، و كلّ ذلك يستمدّونه ويتعلّمونه من صفات الله تعالى ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

 هم قوّامو الليل، فلا سير في طريق الله دون زاد، وزادهم قيام ليلهم، وأُنسهم بخالقهم، ولذّتهم بمناجاته سبحانه.

 كثيرو الإنابة والفرار إلى الله عزّ وجلّ، والفارق هنا بين الربانيين وغيرهم هو سرعة عودتهم إلى الله تعالى بعد ارتكاب المعاصي والذنوب؛ فكلّ بني آدم يُخطؤون ولكنّ أفضلَهم أسرعُهم في التوبة والاستغفار من الزلّات.

 

تلكم هي الربانية التي تعقبها إجابة فورية، الربانية تأتي معها حالة من حسن اليقين بالله، وحسن الظن بالله، قال تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ *  وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} هذه هي الربانية، قالوا "ربنا" بأوثق معانيها، عندما اشتد عليهم الكرب، وزاد عليهم النزع، وتوالت عليهم البلايا، وتكالبت عليهم الهموم، {قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

حالة من الربانية، حالة من الصدق، والنتيجة هي، الإجابة الفورية المعتادة، تتابع الخيرات دون إبطاء من الملك جل وعلا.

قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

تأمّل؛ ثواب الدنيا، كل خيرات الدنيا الصالحة، كل أسواق الدنيا الرابحة، وليس هناك خير من التجارة مع الله تعالى.

والربانيون هم : {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.

لو أقسم على الله لأبرّه:

العبد الرباني هو الذي لو أقسم على الله تعالى لأبره، لأن الله تعالى جعله عبدا ربانيا خالصا لله، انظر إلى حال الربانية التي يعيشونها، وهم أهل الإجابة، {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هذه سمات أهل الربانية، سمات يقظة، ثم سمات متابعة لأنفسهم، وعن أنس: أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ ، وَطَلَبُوا العَفْوَ ، فَأَبَوْا ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا ، فَقَالَ: ((يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ)) ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ)).

ربانية عمر بن الخطاب:

وقف عمر رضي الله عنه عند الجمرات في آخر حجة حجها ودعا الله بقلب صادق، وقال: (اللهم ضاعت رعيتي، ورق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك) قال له الصحابة: كيف تسأل الشهادة في المدينة؟ ومن يسأل الشهادة يخرج إلى الثغور والقتال والأعداء. قال: هكذا سألت وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت. وعلم الله أنه صادق مخلص: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].. {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] عاد إلى المدينة ، وامتدت له يد أبي لؤلؤة الآثمة، في صلاة الفجر في أحسن بقعة وفي أحسن صلاة فطعنه ثلاث طعنات وهوى صريعاً رضي الله عنه وأرضاه.

هذه هي الربانية في أوضح صورها، هؤلاء الفقراء من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، كل غايتهم، وكل صبرهم، وكل طمعهم، في كلمة واحدة، (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ).

صرف الله تعالى زينة الدنيا عن قلوبهم، كي يفرغهم له وحده، فلما فرغ الملك، قلوبهم له، أصبحوا متعلقين به، فلما أصبحوا متعلقين به قلبا وظاهرا وباطنا، قال الملك لسيدنا واصبر نفسك مع هؤلاء، هؤلاء البسطاء الفقراء، هؤلاء الجالسون خلف الحجرات، هؤلاء هم أحب الناس إلى الله، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُم، انظر الأدب الرباني، التربية الربانية، لِذا يُقال: النظر إلى الصالحين يقوي البصر، ويقوي الإيمان، ويشحن بطارية الإيمان، الملك يقول لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، أي أنت يا محمد على هذه القامة، وهذه العظمة، وهذه الربانية، انظر إلى هؤلاء، انظر فيهم، ترى فيهم حب الله سبحانه وتعالى.

المرأة صاحبة الاستسقاء:

هذه امرأة كانت تعيش في زمن الإمام مالك – رحمه الله -، هذه المرأة استسقيَ بطنها أي امتلأت بطنها بالماء الأصفر، فـ ذهبت إلى الإمام مالك كي يدعو إليها، فقال لها الإمامُ: تأتين بعد انتهاء الدرس وأنا أدعو لكِ، ويُؤمن الناس عليَّ، وجاءت المرأة إليه وهو يعطي درسه، فلما انتهى من درسه قال: إني سأدعو لهذه المرأة المريضة، التي اشتد دائها، وأمّنوا على دعائي، فـدعا الإمام، والمرأة في حالة صعبة صعيبة، فقال: اللهم يا ذا المنّ القديم يا عظيم لا إله إلا أنت فرج عنها ما هي فيه . يقول ابن أبي الدنيا: فلما انتهى الإمام من دعائه، وأمن الناسُ على دعائه، شاهد الناس بطنها، وهي تنخفض، بدأ الماء الذي في بطنها ينحسر، يضيق ويضيق إلى أن عافاها الله تعالى بعد هذا معافاة تامة، إنهم عبد ربانيون، لو أقسموا على الله لأبرهم.

الرجل الذي عفا الحجاج عنه بعد أن عزم على قتله:

عن أبي بَلْجٍ الْفَزَارِيَّ ، قَالَ : أَمَرَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بِرَجُلٍ كَانَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ ظَفِرَ بِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ ، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ ، تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيُّ شَيْءٍ قُلْتَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : " يَا عَزِيزُ ، يَا حَمِيدُ ، يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ ، اصْرِفْ عَنِّي شَرَّ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ".

ظل يقولها منذ أُتيَ به إلى هذا الظالم،  بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً، فصرف الله عنه كيد الحجاج، ونجا الله تعالى الرجل، والسبب الربانية في الدعاء .

الرجل الذي نجاه الله من زياد بن معاوية:

عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ زِيَادٍ ، فَجِيءَ بِرَجُلٍ إِلَى زِيَادٍ يُحْمَلُ مَا يُشَكُّ فِي قَتْلِهِ فَحَرَّكَ الرَّجُلُ شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ؟ فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا قُلْتَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : " اللَّهُمَّ رَبَّ إِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَعْقُوبَ ، وَرَبَّ جِبْرِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ ، وَإِسْرَافِيلَ ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ ، وَالإِنْجِيلِ ، وَالزَّبُورِ ، وَالْفُرْقَانِ الْعَظِيمِ ، ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ زِيَادٍ ، فَدُرِئَ عَنْهُ شَرُّهُ " .

إبراهيم بن أدهم:

ركب إبراهيم بن أدهم مرة البحر، فهاج عليهم، فلف رأسه فى عباءة ونام. فقيل له: ما ترى ما نحن فيه من الشدة! فقال: ليس هذا شدة! الشدة الحاجة إلى الناس. ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا لطفك، فهدأت السفينة.