لا تقعدوا فراغا فإن الموت يطلبكم.. العدد 48

الحكم الربانية
طبوغرافي

هذه هي الحكمة الثالثة والخمسون من الحكم التراثية لإمام المحدثين، شعبة بن حجاج البصري، "لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم" .


هذه حكمة من نوع خاص، لأنها تحمل ترياق الصالحين الذين عاشوا الإيمان بالعمل وليس بالكلام بإخلاص، عاشوا الإيمان ليس نقلا عن فلان، إنما عاشوا الإيمان كما ينبغي أن يعيشه المسلم في تجربة شيقة مع الله عز وجل، هذه الحكم تنبعث من قلوب صادقة، من نفسيات ثابتة، مدادها وأساسها، وميزان عملها هو أن ساعات الإنسان مقدرة، بل إن شئت قل معدودة، ولماذا أقول ساعات الإنسان؟
دعني أكون صريحا معك وأقول لك: إن أنفاسك هي الأخرى معدودة، وأتعبُ الناس من جلت مطالبه، أي تعالت مطالبه، تجده على حد قول بن الجوزي، ليس راضيا عن نفسه، وليس راضيا عن غيره، وأمثال هذه النوعية الذين جلت مطالبهم، أي أصحاب الغايات العالية، يريدون وجهه .
شاهقا مثل الجبال، لكنك لم تعتن به، ولم تتابعه، سيخرب، يعلوه الخراب، وتسرح فيه العناكب والحشرات.
عندك زوجة، وعندك أولاد، وعندك صلة أرحام، وعندك وعندك.. كل هذه واجبات عليك، لن تستطيع أن تتفلت منها، وإن لم تقم بها، وإن لم تحسن إلى هؤلاء، وإلى نفسك مع الله عز وجل، فإنك مأخوذ بها يوم القيامة، محاسب عليها، كل ذي حق يريد أن يقتص منك يوم القيامة.
لأجل هذا، الذي يتأمّل في حالة نفسه يرى أن إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري رحمه الله تعالى، يقول: لا تقعدوا فراغا، صحيح ..
كيف يقعد فراغا؟! ولو قعد، سيحاسب على الفتيل والقطمير والنقير.
هل هذا عنده فراغ؟ أنت تعلم أن سنواتك محدودة، وأن أنفاسك معدودة، وأن النفَس محسوب عليك، كيف لك أن يكون عندك فراغ.
دلني على رجل عنده فراغ، اعطني ألف رجل، وأنا سأشغله لك، أشغلهم أربعا وعشرين ساعة لا ينامون، أتعب الناس من جلت مطالبه.
يوم أن ينادى على الناس لكي يقبلوا على العمل في وظائف شاغرة في أماكن معينة، ولا يُقبل أحد فاعلم أن الناس قد ماتوا، فاعلم أن الناس جالسون يمدون أيديهم ينتظرون الصدقات، وليس هناك أمة تعيش على الأماني، وقد علمتم، وعُلمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
لكن تمطر حجارة على الظالمين، كما ذكر الملك، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}
إذا لم تتعب وتعرق في طلب العيش فإن الحياة لا قيمة لها، لو استشعرت أنك مرفّهٌ، فحياتك لا قيمة لها، فالمسلم يكون مضغوطا في حياته، ولذا قال الملك : {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
لا تقعدوا فراغا فإن الموت يطلبكم.. أنت إذا لم تكن مدركا قيمة الوقت في الحياة، وقيمة الحياة بالوقت، يا ليتني قدمت لحياتي، الحياة عبارة عن دقائق وثوان، كما قال الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
لماذا بهذه الدقة؟ لأنه سيأتي عليك وقت تتمنى لو أن الزمان استدار، لو أن عقارب الساعة تعود إلى الخلف، ولن يحدث، تتمنى أن يمد في عمرك ساعة، ولن يحدث، بل نصف ساعة، ولن يحدث، عقارب الزمان، عقارب الدنيا، لن تعود إلى الخلف، لماذا؟
لأن الله تعالى أراد لليل والنهار أن يتقدما، ولا يتأخرا .
أتعب الناس من جلت مطالبه، لماذا؟ لأن من السهل على الإنسان أن يكون سلبيا، لكن هذه السلبية سيؤخذ بها يوم القيامة، لماذا؟
لأن الله تعالى أعطاك ما لم يعط غيرك، أنت اليوم عندك أربعون سنة، غيرك مات على شبابه، ابن خمسة سنين أو سنتين، وغيرك مات وهو في بطن أمه، فالله أطال في عمرك، الله تعالى أعطى لك منحة، منحك الله تعالى منحة، منحك العمر، منحك الزمن، منحك الليل، أنت تنام وتستيقظ وغيرك يعمل، هناك الذي يحميك ويسهر عليك، هناك من يجهز لك الخبز، أنت في دائرة بالزمان مخدوم، الكون كله يخدّم عليك، الشمس تخدّم عليك، القمر يخدّم عليك، السماء تحفظك، الأرض تحملك، كل هذه معناها، أن الإنسان لا بد أن يدرك نعم الله تعالى عليه، في ما أولاه، ونعم الله تعالى عليه، في ما ذوى عنه، المعنى، أنت الآن جالس بصحتك، وغيرك في المستشفى، غيرك ينام في الشارع، ، من أين يأتي لك فراغ؟
كيف يأتي لك الفراغ وقد ملأ الله تعالى عمرك بالخيرات، وبالنعيم؟
لن أتكلم عن الموت، لأن الكلام عنه يزعج كثيرا من الناس، لكن الحكمة، فيها كلمة الموت، وأنا تعمدت أنني أتجافى الكلام عن الموت هذه المرة، وأركز على قيمة الوقت، على قيمة الأنفاس المعدودة، على قيمة حياة الإنسان بالزمن، ماذا خلدت في هذه الحياة؟
شعبة بن حجاج البصري عالم كبير مثله، في حجمه مات، وبعد أن مات ذهب إليه أحد تلامذته في الرؤية، فسأله تلميذه، ماذا فعل الله بك يا شيخنا، قال: لقد رفعني ربي، فقال له بأي شيء رفعك الله تعالى؟ قال: بتعليمي الأبناء والأولاد والأحفاد سورة الفاتحة، قال له التلميذ: وهذه المؤلفات، وهذا العلم، وهذه الدروس، وهذه الخطب، وهذه المقالات.. قال له: ما رفعني الله تعالى سوى بالفاتحة..
ركز في عمل معين يشفع لك يوم القيامة، ويرفع قدرك في الدنيا.
لا تقعدوا فراغا، فإن الموت يطلبكم، ليس الموت فقط، العمل الصالح إذا لم تؤده، العمل نفسه بغضب منك، من تركك لهذا العمل .
ليس الموت فقط هو الذي يطلبك، لكن مظالم الآخرين، وتبعات الآخرين تطلبك، لكن حقوق الناس تطلبك، لكن واجبات العقل من إمتاعه بالمعلومات وإثراءه بالأفكار، وبحب القرآن، ورياض الصالحين، يطلبك، لا أحب لك أن تقول يوم القيامة، {ربي ارجعون} لكي أعمل صالح في ما أن تركت من عمر، ومن زمن، وحياة.
لا أحب لك أن تقول يوم القيامة: {يا ليتني قدمت لحياتي}
لا أحب أن أسمعها منك، فإنها صعبة، بمعنى أن حياتك كانت فاشلة، وأنا لا أحب لك أن تكون فاشلا .