المسلم الحق لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة

الحكم الربانية
طبوغرافي

أهلا بكم أيها الأحباب مع حكمة جديدة من الحكم الإيمانية المؤثرة، وحكمة اليوم للإمام القشيرى رحمه الله، يقول فيها: المسلم الحق لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة. ومعنى هذا الكلام ليس أن المسلم يُعصم من الخطأ، أو أن ملك السيئات لا يسجل عليه الأخطاء، وإنما المعنى هنا بلاغى، يريد صاحب الحكمة أن يقوَى إيمانُ المسلم بربه بأن يكثر من الطاعات وأن يُتبع السيئة الحسنة، وأن يكون دائم التوبة دائم الاستغفار، فإن فعلَ كل ما سبق فكأنما منع ملك السيئات عن الكتابة، لأن السيئات فى تلك الحالة لن تؤثر عليه بل سيبدلها الملك جل وعلا إلى حسنات عظيمة بفضله وكرمه ومنه، أى أن المسلم إذا أخلص العبادة لله وحده وراعى حدود الله وحرمات الله تعالى، وأقام على الطاعات، وحافظ على هدى النبى المعصوم صلوات ربى وسلامه عليه، وعمل بالقرآن الكريم، ووصل رحمه، وأقام شرع الله تعالى فى نفسه وأهله فإن الله تعالى يبدل سيئاته بالحسنات بل يزيد له فى الحسنات ويضاعفها له، فتُمحى سيئاته بفضل الله تعالى، قال تعالى: { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 70-71}

هذه الحكمة تعلمنا كظم الغيظ، وتعلمنا الصبر على البلاء، وتعلمنا حبّ الخير للناس، وتبين لنا كرم الله تعالى على العبد إذا تاب وأتبع السيئة الحسنة، عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)

ويجدر بنا أن نقف فى هذا المقام مع بعض الأمور التى تجعل ملك الحسنات لا يتوقف عن الكتابة، ولا تترك لملك لسيئات شيئًا ليكتبه:

التوبة وفضلها:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ( التحريم: 8)

حاجة الإنسان ليس إلى أي توبة، التوبة النصوح حاجة مستمرة حاجة لا تنقطع، حاجة الإنسان إلى التراجع عن الأخطاء وتصحيح الأخطاء مع الله عزّ وجلّ أكبر من حاجته للطعام والشراب.

فضل الاستغفار فى كل وقت:

روى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه:" يا بني، عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً "

وقالت عائشة رضي الله عنها: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ".

وقال قتادة: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دوائكم فالاستغفار"

وقال الحسن" أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة؟"

وقال أعرابي: "من أقام في أرضنا فليكثر من الاستغفار، فان مع الاستغفار القطار "، والقطار: السحاب العظيم القطر.

وعلى المسلم أن يستغفر الله حتى بعد الطاعات؛ لأنه يعتقد أنه مقصر، ولجبر ما فيها من خلل ونقص، فبعد الصلاة ينبغي على المسلم أن يقول أستغفر الله ثلاثاً، وهكذا بعد كل العبادات، لأن النبى صلى الله عليه وسلم وهو الذى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فعن أبي بردة قال سمعت الأغرّ وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة).  [رواه مسلم].

وقد كان سلف الأمة الأبرار إذا أرادوا السقيا استغفروا الله، وإذا طلبوا المال استغفروا الله، وإذا أردوا الولد استغفروا الله، أو طمعوا في نيل القوة في أبدأنهم وبلدانهم استغفروا الله، وهذا لدقيق فهمهم لقوله تبارك وتعالى: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } [نوح:10-11]

الإكثار من الطاعات والمداومة عليها:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سددوا وقاربوا، واعملوا أن لن يدخل أحدَكم عملُه الجنة، وأن أحبَّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلّ".

قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -:

"أدومها وإن قل" فيه سؤال، وهو أن المسئول عنه أحب الأعمال، وظاهره السؤال عن ذات العمل؛ فلم يتطابقا، ويمكن أن يقال إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة وفي الحج وفي بر الوالدين؛ حيث أجاب بالصلاة ثم بالبر.. الخ، ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولا أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجرا؛ لكن ليس فيه مداومة... والحكمة في ذلك أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع، وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل؛ فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه، والمراد بالعمل هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.

وقال المناوي - رحمه الله تعالى -:

"أحب الأعمال إلى الله"؛ أي عند الله، فإلى بمعنى عند، وقيل للتبيِّين؛ لأن إلى المتعلقة بما يفهم حبًّا أو بغضًا من فعل تعجب أو تفضيل معناها التبيين، كما ذكره ابن مالك وابن هشام. "أدومها"؛ أي أكثرها ثوابا أكثرها تتابعا ومواظبة، ولفظ رواية مسلم "ما دووم عليه" كذا هو في أكثر أصوله بواوين وفي بعضها بواو واحدة والصواب الأول... قلت: المراد بالدوام العرفي وهو قابل للكثرة أو القلة. "وإن قل" ذلك العمل المداوم عليه جدا؛ لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق تقدس، ولأن تارك العمل بعد الشروع كالمعرض بعد الوصل، ولأن المواظب ملازم للخدمة وليس من لازم الباب كمن جد ثم انقطع عن الأعتاب... ولا أن المداوم يدوم له الإمداد من حضرة رب العباد، ولذلك شدد الصوفية النكير على ترك الأوراد، وفيه فضيلة الدوام على العمل، ورأفة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأمته؛ حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة؛ لأن النفس فيه أنشط، وبه يحصل مقصود العمل وهو الحضور.. هذا عصارة ما قيل في توجيه الدوام في هذا المقام، وأقول: يحتمل أن يكون المراد بالدوام الترفق بالنفس وتدريبها في التعبد لئلا تضجر فيكون من قبيل "إن لجسدك عليك حقا" يقال: استدمت الأمر ترفقت به وتمهلت، واستدمت غريمي رفقت به.

حب الخير والإصلاح بين الناس:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، رواه البخاري ومسلم .

حرص الإسلام بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى، حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما ينظم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط، متين البنيان .

ومن أجل هذا الهدف، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحقيق مبدأ التكافل والإيثار، فقال: (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، فبيّن أن من أهم عوامل رسوخ الإيمان في القلب، أن يحب الإنسان للآخرين حصول الخير الذي يحبه لنفسه، من حلول النعم وزوال النقم، وبذلك يكمل الإيمان في القلب .

وإذا تأملنا الحديث، لوجدنا أن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس، يتطلب منها سموا في التعامل، ورفعة في الأخلاق مع الغير، انطلاقا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل، وهذا يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس، ويتغاضى عن هفواتهم، ويعفو عمن أساء إليه، وليس ذلك فحسب، بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم، ويعود المريض منهم، ويواسي المحتاج، ويكفل اليتيم، ويعيل الأرملة، ولا يألو جهدا في تقديم صنائع المعروف للآخرين، ببشاشةِ وجه، وسعة قلب، وسلامة صدر .

وكما يحب للناس السعادة في دنياهم، فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة، لهذا فهو يسعى دائما إلى هداية البشرية، وإرشادهم إلى طريق الهدى، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ  } ( فصلت: 33 ) .

ذكر الله فى جميع الأحوال والأحيان:

ذكر الله عزّ وجلّ أعطى الله عليه من الثواب والجزاء مالا يحيط به وصف ولا يحصيه عد. يجد المؤمن أثره في الدنيا وما في الآخرة أعظم وأبقى.

 فمن ثواب الذكر لله تعالى أن الله يذكر من ذكره في الملأ الأعلى قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون}( البقرة: 152)، ويكون الله مع الذاكرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) رواه البخاري ومسلم.

 ومن ثواب الذكر: طمأنينة القلب وثباته ويقينه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28) ومن ثمرات الذكر أنه يورث الحبّ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويزيد الإيمان، وتتيسر به الأمور، وتنشرح به الصدور.

ويحصّن به المسلم نفسه من مكائد الشيطان، عن الحارث بن الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ان الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، منها ذكر الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى)) رواه الترمذي وابن حبان.

 ومن ثمرات الذكر أنه يكفّر الذنوب ويفرّج الكروب، وبالجملة فثواب الذكر لا يُعدّ ولا يُحصى، فإذا كان العبد من الذاكرين الذين لا تزال ألسنتهم رطبة بذكر الله عزّ وجلّ، فذلك باب جامع من أبواب الخير.

 

هذه كلها أمور بها يتحقق قول القشيرى رحمه الله تعالى: المسلم الحق لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة، فعمل الطاعات والمداومة عليها وذكر الله تعالى فى كل الأحيان وعلى كل الأحوال يزيد من حسنات المسلم، بل ويحول ذلك سيئاته إلى حسنات.

وخلاصة القول: إن السيئات التى نعملها نستطيع أن نغيرها ونبدلها إلى حسنات وأجور عظيمة، وذلك بطاعة الله تعالى وحفظ حدوده، وبر الوالدين، والرحمة بالضعفاء، والعطف على الصغار، ونصرة المظلومين، وعيادة المرضى، والسعى للإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على الأرامل والمساكين واليتامى والفقراء، والحفاظ على هدى النبى صلى الله عليه وسلم وتبليغ دعوته ونصرته، وقراءة القرآن الكريم والعمل بما جاء به من أحكام، وغير ذلك من أمور البر والإحسان، كلها أشياء إن فعلناها وحافظنا عليها يبدل الله تعالى سيئاتنا إلى حسنات.

{يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}