لاحول على الآلام ولا قوة إلى الآمال إلا برحمتك وعونك

الحكم الربانية
طبوغرافي

لقد عانى الشيخ فى حياته كثيرًا من الظالمين، وحوكم كثيرًا دون ذنب فعله، وفى هذه المحاكمات كان يُهان، وكان قد تجاوز الثمانين عامًا، قرأت حكايات كثيرة من صور هذه المعاناة ومما قرأت قال: أخذونى ذات مرة إلى المحكمة دون ذنب فعلت، وكان ذنبى الوحيد هو أننى أدعو إلى الله عز وجل، فى وقت ظهرت فيه العلمانية التركية العسكرية بمنتهى بشاعتها، ومنعوا رفع الأذان باللغة العربية، وأغلقوا المساجد، وأنتم تعرفون مصطفى كمال أتاتورك، وما كان يفعله بالمسلمين من جرائم.

يقول الشيخ، فأجلسونى على كرسى، قبل أن يأتى القضاة، فأتى القاضى فلما رآنى جالسًا قال: لِمَ يجلس هذا الشيخ الكبير؟ ينبغى أن يقف فى هذا المكان إذلالًا له وإهانة له، قال: سمعت هذا الكلام  بنفسى، فأخذوا منى الكرسىّ، وأنا لا أقدر على الوقوف، ولا أستطيع أن أتحمّل، يعنى لا يتركونه حتى يجلس على الأرض، ولا يتركونه يجلس على الكرسى، ولكن بقى واقفًا حتى يسقط على الأرض مغشيًّا عليه، وهذا ماحدث بالفعل.

بعد هذه المقدمة نقول، العلماء هم مصابيح الهداية، هم نور الكون، هم الذين يثبت الله بهم الناس عند اشتداد الأزمات، فهم الراسخون في العلم كما قال عنهم الله عز وجل في كتابه الكريم:

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} الذى يصل لمرحلة الرسوخ فى العلم، أمثال هؤلاء الأكابر فهم الحكماء الذين نستمد منهم الحكم العطائية والقيمة التى نتبعها في حياتنا ونسير على هديها، هى حكم قصيرة فى مبناها عظيمة فى معناها

كهذه الحكمة التى معنا اليوم ( لا حول على الآلام ولا قوة إلى الآمال إلا برحمتك، وعونك )

يعنى الإنسان لا يقدر على تحمل الآلام، لو أن أحد الناس يجرى له الأطباء فتحة أو مكانًا لإجراء غسيل للكلى، مثلًا دون تخدير كُلِّى أو موضعى، فإنّ البشر لا يقدرون على تحمل هذا، يأتى شخص بالمنشار أو بالسكينة ويقطّع فى لحمك وأنت تنظر، هل تتحمل؟ لا يقدر الإنسان على هذا إلا عندما يعطيه الله العون والقوة، فيبدأ ينسى الآلام، مع الذكر والتسبيح والرجاء لأنه يعلم أن هذا الصبر سيوصله للجنة، ولحظات العذاب فى حياة الإنسان هى لحظات الفرج،

فلرب ضائقة يضيق بها الفتى** ذرعًا وعند الله منها المخرجُ

شخص فُصل من عمله، وصار شريدًا بلا مأوى وبلا عمل، ومطلوب منه أن يطعم والديه، وأن يطعم زوجته وأولاده، هذا بالنسبة له ألم، ولكنه ليس ألمًا حسيًّا أو جسديًّا، فربما كانت الآلام المعنوية أشدّ وجعًا من الآلام الجسدية، الآلام النفسية التى يتحملها الإنسان فى حياته، مثلًا أن يهان دون ذنب فعل، أو أن حقّه يضيع فى المكان الذى يعمل فيه رغم أنه متميز.

هذه آلام، لأنه لم يأخذ مكانه فى الحياة كما ينبغى رغم أنه متميز، ومنظم، ويتقى الله في عمله، هذه كلها آلام نفسية، وهذه الآلام أشدّ من المرض.

 ألم الفقد: أحد الناس فقد ابنه الوحيد، أو زوجة كانت تحبُّ زوجها، وتغدق عليه كل الحنان، وكان يغدق عليها كل معانى الحب والوفاء، وفجأة مات، أو ماتت، تصور الحياة بدونها أو بدونه، كل هذه من الآلام التى يصعب التأقلم معها.

 بعض الناس ضعفاء الإيمان، لما تشتد الكارثة علي أحدهم، إما أن ينتحر، وإما أن يُجنَّ، حكى أحد الأحباب لى هذه القصة:

دخل ثلاثة مسلحون على بيت امرأة يبحثون عن زوجها المطارد، من قبل الشرطة، أو من قبل عصابات، المهم أنه مطلوب، فدخل عليها الثلاثة، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت لا أعرف، لم يأتِ البيت، إنه هارب، فقالوا لها سنعطيك درسًا أنت وزوجك، فذبحوا الأولاد الثلاثة أمامها كما تذبح النعاج، فأصيبت هذه المسكينة بالجنون، لم لا تُجنّ وقد ذُيح أبناؤها أمام عينيها، ما تحملت أن ترى أولادها مذبوحين، وزوجها مطاردًا، كيف لها أن تعيش بعد هذا، فجُنَّت، ولكن لو كان إيمانها قويًّا، لعلمت أنهم شهداء، ولصبرت واحتسبت، ولعلمت أن ما عند الله هو خير وأبقى.

ذات مره توفى أحد شبابنا بسبب الكهرباء فى الأردن، وكان هو الابن الوحيد لأبيه، والعائل الوحيد للأسرة، بعد أن تقدم أبوه في السن، وذهب بصره، سافر الولد إلى الأردن لكى يرتزق، ويطعم أهله، ويتزوج، وبعد شهر صعقته الكهرباء فمات، فبلّغوا والده: ابنك  فلان مات فى الأردن، وظل الناس يعزونه، وكان إيمانه قويًّا، فقال لا أريد أحدًا يعزينى، وإنما أريد أن أهنأ على ولدى، فقد سبقنى إلى الجنة، لقد كان صالحًا، ومات على وضوء، ومات على طهارة، لم يُجنَّ، ولم ينتحر.

إذًا، لا حول على الآلام، يعنى الإنسان قد لا يتحمل الآلام النفسية، وضغوط الحياه وحده، لا يقدر على ذلك.

 سيدنا نوح عليه السلام يقول : {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} يعنى يا رب إذا لم يأتنى منك العون والمدد والقوة فأنا سأضيع.

الإنسان قد يوضع فى فتنة، وتشتدُّ الفتنة عليه كما حدث مع سيدنا يوسف عليه السلام، سيدنا يوسف ضاق ذرعًا بما شاهد عليه النسوة فى مصر من فجور، وتعرى، وتكشف، وزنا بواح، وهو وشابٌّ واحد وسط آلاف النسوة، ماذا أفعل يارب؟

{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يعنى يارب لو تركتنى وحدى وسط النسوة لن أستطيع أن أدفعهنَّ عنى، أنت المتكفل بصرف هذه الفتنة عنى، ليس لى غيرك،

الأمر كبير علىّ يارب، يارب نجنى منهم، هذا هو معنى لا حول على الآلام، هل هناك ألم أشد من هذا؟ أن يُلقَى الإنسان وسط الرذائل، وتُهيّأ له كل وسائلها؟ وهو من بيت أنبياء وابن نبى، هل هناك فتن أشد من هذا؟ {وَإِلَّا تَغْفِر لِي وَتَرْحَمنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِين}

هذا كلام سيدنا نوح عليه السلام، يعنى يارب عشتُ هذا العمر كله فى سبيلك، وأنا أهان، وأعذَّب، وأضرب، ولم أفعل شيئًا يغضبك، يارب نجنى، فنجَّاه الله سبحانه وتعالى.

أنت لا تعانُ إلا برحمة الله سبحانه وتعالى، فى بعض الأحيان قد لا أجد وقتًا كى أفطر بعد صيام يوم طويل، وكذلك قد لا أجد وقتًا للسحور، وقد أواصل يومين رغمًا عنى

لتدافع الأعمال علىّ، ورغم هذا يرزق الله الإنسان قوة تحمّل يصعد بها لأعلى قمة جبل فى العالم، هذا من رحمة الله بنا، وتشعر أن بطنك مليئة، وجسمك قوى كل ذلك برحمة الله عز وجل، هذه كلها إمدادات ربانية،{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ  وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}

 

  لا حول على الآلام يعنى لا قدرة على تحمل الآلام، ولا قوة إلى نيل الآمال إلا بأمر الله وإرادته.

يعنى الإنسان يتمنى أن يبلغ شيئًا فى الدنيا وفى الآخرة، فلا حرج في ذلك أن تتمنى ما أردت أن تكون عالمًا كبيرًا مثلًا، لك أن تشتهى أن تكون من أهل القرآن لا حرج، تتمنى أن تموت شهيدًا لا حرج، تتمنى أن تكون من السابقين إلى الله لا حرج، تتمنى أن تموت ساجدًا لا حرج، هذه كلها آمال.

إذًا عندنا آلام يتحملها الناس فى حياتهم،

وهناك أيضًا آمال يسعى الإنسان إلى تحقيقها، ولولا هذا الأمل ما استطاع الإنسان أن يعيش، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

 الإنسان يتغلب على آلامه بتقوى الله والحفاظ على الطاعات، فلا يشعر بالألم، لأنه في نفس الوقت يشعر بلذة الطاعة.

عروة بن الزبير الذى قُطعت رجله برغبته دون أن يخدر الأطباء مكان العملية، تغلب على هذه الآلام بالصلاة وبالتدبر فيها، وبالخشوع فيها.

بعض الناس لا يتحمل أن يأخذ حقنة فيطلب من الطبيب أن يخدر موضع الحقنة أولًا، سبحان الله، هذا الصحابى تقطع رجله ولسانه رطب بذكر الله، لا أقول لك أنه لم يشعر بالألم، لا بل هو إنسان وعنده مشاعر، ولكن شعوره بلذة الطاعة، غطى على الشعور بالآلام.

 إذًا، لا قوة ولا حول على الآلام يعنى لا قدرة لأحد على تحمل الآلام، ولا قدرة إلى الآمال إلا برحمة الله، وعون الله.

 أنت تصلى ليس لأنك قادر على الصلاة، ولكن لأن الله عزّ وجلّ قد أعانك عليها، لأنك صليت الفجر اليوم، وقلت بعد صلاة الفجر اللهم أعنى على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

فالله أعانك، وسيعينك بقدرته على الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.

سليمان عليه السلام لا يستطيع أن يكون شاكرًا بالرغم من أنه نبىّ كبير، إلا إذا أعانه الله على الشكر، قال الملك على لسان سيدنا سليمان عليه السلام:

{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

أوزعنى يا رب، ساعدنى أن أقول الحمد لله، أريد أن أكون شاكرًا لك، لكن أنا وحدى لا أستطيع، فأنت الذى تعيننى على نفسى، وتعيننى على الشيطان فهو جالس لى في كل مكان: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}

كنا ونحن صغار، ولازلنا صغارًا لم تكن عندنا مدارس فى بلادنا، وكنا نسير فى البرد فى كل يوم خمسة كيلو مترات فى الصباح، لكى نصل إلى المدرسة، من عنده آمال لابد أن يتعب نفسه لكى يصل إلى هذه الآمال .

 الذى يحصل على المركز الأول فى الثانوية العامة، هناك مليون طالب غيره فى الثانوية العامة، ومع ذلك واحد فقط الذى يحصل على المركز الأول، ليس لأنه أفضل الطلاب ولا أزكى الطلاب، ولا أحفظ الطلاب، الفارق فى جملة واحدة، وهى: "عنده أمل" ويسعى إلى هذا الأمل وسيدرك النجاح إن شاء الله، سيدركه بقوة الأمل، سيدركه بقوة العزيمة، سيدركه بعون الله عز وجل.

أيها الإخوة الكرام صدق الإمام النورسى حيث قال: "لا حول على الآلام ولا قوة إلى الآمال إلا برحمتك وعونك"

وخلاصة القول، أنك لن تتحمل الآلام إلا بقوة وتمكين من الله عز وجل، ولن تنال الآمال إلا بتوفيق الله جل وعلا لك.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}