الإيمان الحق فى قلة الشكوى وكثرة الشكر

الحكم الربانية
طبوغرافي

دائمًا الشكوى تعبّر عن اعتراض على المقدور، وعدم الرضا بما قسم الله تعالى خاصة عندما تشكو الله إلى عباده، وعباد الله ليس أرحم بك منه سبحانه وتعالى، فهو الرحيم وهو الرحمن، وهو الودود، وإذا شكوت الله إلى العباد شكوت الرحيم إلى من لا يرحم.

سيدنا يعقوب عليه السلام أظهر الشكوى فعلًا، وتوقَّف العلماء عند نوع الشكوى التى أبداها يعقوب عليه السلام، وهل كان ينبغى أن يبقى يعقوب عليه السلام لا يشكو أم إنه يجوز له أن يوجه الشكوى إلى الله، فقال عليه السلام : (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فلو قال: إنما أشكو حالى إلى الله، لكان هذا اعتراض على القضاء والقدر، ولكن قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله، يعنى أشكو ما وصلت إليه من تشتت فى مشاعرى، لأن أولاده عليه السلام تفرقوا فى البلاد، لا يعرف عنهم شيئًا، والبث يعنى تفتت المشاعر فهو لا يدرى ماذا يفعل؟

 انتابته حالة من الهمِّ.

إذا جلست إلى أحد الناس، وقلت له أنا مهموم والله لأن مرتبى ضعيف، والحياة صعبة، والسلع غالية،  والزوجة مريضة، والأولاد ما زالوا صغارًا إذًا أنت تشكو الرحيم لمن لا يرحم، أتشكو الرحيم الذى قدر عليك هذا إلى الإنسان الذى لا يرحم؟

الدنيا لم يخلقْها الله من أجل التسلية واللهو والفراغ والعبث، وإنما خلق الله الإنسان كى يعده لمراحل تالية بعد هذا، لماذا يمرض الإنسان؟ عندما ترى مريضًا تتذكر دنوَّ الأجل، تتذكر القبر، تتذكر الآخرة، وإذا شفاه الله عرفت أن الأسماء الحسنى لها أسرار، إذا عافى الله المريض فهذا بسر اسمه اللطيف وبسرّ اسمه الشافى، وبسر اسمه الودود، إذا عافاه الله وأذن له بالحياة بسر اسمه الرحيم، وإذا أذن الله له أن تنتهى حياته فذلك قصة أخرى لهؤلاء الذين يحتاجون إلى من يذكرهم بدنوِّ الأجل.

المسألة في انتهاء الأجل ليست مرتبطة بالسن، وإنما هى مرتبطة بالأجل والمدة التى حددها الله للإنسان، فالله أخبرنا أن لكل أجل كتاب
فيما يتعلق بالمرض، وفيما يتعلق بالموت.

قد يعيش الإنسان فوق مائة سنة بصحة جيدة، ولا يُبتلى بأى شيء من الأمراض، وقد يعيش غيره عشرين سنة فيُبتلى بالأمراض المزمنة والخطيرة، فإذا شاء الله له أن يعيش فهذا بسر أسماء الله الحسنى على العباد،  ومما أعجبنى فى فكر الشيخ الإمام أنه يحب الأسماء الحسنى التى أحب أن أتكلم عنها دائمًا، ولى فيها مؤلفات كثيره، الجزء الذى معنا من كتاب هذا الشيخ، وهو "اللمعات" يركز فيه على سر الأسماء الحسنى فى كل ما يجرى فى حياة البشر، الفقير الذى أغناه الله بسر الأسماء الحسنى، البعيد الذى قربه الله بسر الأسماء الحسنى، الغنى الذى زوده الله بسر الأسماء الحسنى، المريض الذى عافاه الله بسرّ الأسماء الحسنى، هذا الجزء الذى معنا يأخذك إلى جانب مهم، وهو حب الابتلاء.

حدثتكم فى معية الحبيب، عن عمران بن حُصَين الذى ظل ثلاثين سنة يشتدّ المرض عليه وظل راقدًا على سريره لا ينهزه إلا الصلاة، أو الجهاد فى سبيل الله، وبقى على هذه الحالة، ولم يشتكِ إلى الناس، وظل صابرًا محتسبًا لله عز وجل حتى كشف الله عنه.

المرأة الأنصارية التى ذهبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له إنى أُصرع، وإنى أتكشف، لم تكن شاكية، والقصة معروقة، عند ذلك خيرها النبى صلى الله عليه وسلم بين الدعاء لها فيكشف الله عنها هذا البلاء، أو أن تبقى على حالها  وتصبر ولها الأجر، فاختارت الصبر، وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوا لها بعدم التكشف عند حالة الصرع هذه، فدعا لها.

أبو أمامة رضى الله عنه كان عليه دَين، اشتد الدَّين عليه، ولكنه لم يشكُ حاله للناس، ولم يطلب منهم المساعدة، وإنما ذهب إلى المسجد وجلس فيه فلمح النبىُّ صلى الله عليه وسلم التغير فى وجه أبى أمامة، فقال له مالى أراك مهمومًا؟

الرجل لم يشكُ حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الهمَّ على وجهه، فقال له: مالى أراك مهمومًا؟ فقال ديون لازمتنى يا رسول الله، فعلَّمه النبى صلوات ربى وسلامه عليه أدعية قضاء الدين، فقالها فلما قالها قضى الله عنه دَينه.

يقول بن القيم أستاذنا الكبير: هناك فرق بين بيان الحال، والشكوى، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} هذا بيان حال، سيدنا موسى عليه السلام يقول يارب أنا فقير إلى الخير منك، يارب أنا فقير إلى عفوك، يارب انا فقير إلى رزق واسع منك، يارب أنا فقير إلى رحمتك، ولن أشكو إلى عبادك، أنا أقولك يارب، رب إنى لما أنزلت إلى من خير  فقير. هذه الجملة التعبيرية اسمها بيان الحالة، تعبير عن حالة الإنسان.

 شخص يقول لأحد الصالحين: ادع لى أنا محتاج أن تدعو لى، أنا عندى مشكلة، هذا ليس شكوى ولكن بيان للحالة التى عليها الإنسان، إذًا لابد أن نفرق معشر السادة الكرام بين من يشكو من فقر أو مرض أو فاقة أو أزمة سلمكم الله وأحبكم، وبين آخر يعبر عن حالته بأسلوب رقيق، يطلب الدعاء دون أن يُهتك له ستر أو يُفضح له أمر.

 شخص عنده مشكلة مع زوجته، أو سيدة عندها مشكلة مع زوجها، لا ينبغى أن يشنع بها أو أن تشنع هى به، وأن تسمع جميع وكالات الأنباء أن هناك مشكلة فى البيت، وأن الأمر بينهم متوقف على الطلاق على حد قول الناس.

 لما اشتد الأمر بين السيدة زينب بنت جحش رضى الله تعالى عنها، وبين سيدنا زيد بن حارثة رضى الله تعالى عنه. كان زيد يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشكو، وإنما يعبر عن حالته، يا رسول الله أنا أتعامل معها، ولكن أستشعر أن ثمة فوارق بينى وبينها، أستشعر فى نظرها عدم الرضا، أستشعر فى ردِّ فعلها عدم الراحة، النبى صلى الله عليه وسلم يستغلّ الحدث فى تربية الأمة فيقول له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} لم يكن زيد شاكيًا، لا والله

بل هذا كلام عادىُّ جدًّا، فالنبى صلى الله عليه وسلم ينصحه، فيقول: أمسك عليك زوجك واتقِ الله، يعنى، احذر أن تظلمها، احذر أن تطلق المرأة دون بينة، احذر أن تأخذ قرارات مصيرية كبيرة بسبب أمور تافهة.

 أيوب عليه السلام، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ـ لم يقل يارب المرض أضاع بدنى، أو جعل الناس ينفرون منى، بل قال مسنى الضر. هذه ليست شكوى وإنما هى بيان حالة، جملة مسّنى الضرّ لا تعبّر مطلقًا عن مدى معاناة أيوب عليه السلام، فأيوب عليه السلام كان بدنه قد انهار تمامًا، وظل ملازمًا الأرض لا يتحرك أكثر من ثمان سنوات، وبرغم هذا لم يعترض على أمر الله وإرادته، بل لجأ إلى الله بأسلوب جميل مهذب، رب إنى مسنى الضر مجرد مس فقط ولذلك كشف الله عز وجل عنه هذا الضر، ورفع عنه هذه المعاناة، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}.

يقول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسى: الإيمان الحق فى قلة الشكوى، ولكن للإنسان أن يشتكى عندما يطلب النصيحة، يقول لأحد الناس: ساعدنى أنا عندى مشاكل كذا، والله لا أعترض على الله

ولكن أريد النصيحة منك ماذا أفعل؟ أنت عندك خبرة فى الحياة أكثر منى، أريد أن أتعلم منك، فالله عز وجل يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

ماذا كنت ستفعل إذا كنت مكانى؟ الذى يشكو يكون متذمرًا، يكون كارهًا معترضًا على قضاء الله، يقول له يارب ألم تجد أحدًا غير ابنى لكى تميتَه؟ كل الناس عندهم أطفال كثيرون، وأنا ليس عندى سوى هذا الطفل، ومع ذلك أخذتَه منى، هذا الرجل قال هذه الجملة عندما بلغه أن ابنه مات، هذ ا اعتراض على أمر الله عز وجل، بل هذا هو الكفر بعينه والعياذ بالله.

 

ولكن المسلم الحقيقى عندما تأتيه المصيبة  تجده صابرًا محتسبًا أجره عند الله عز وجل، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} قالو إنا لله وإنا إليه راجعون، لم يقل: فقالوا، دليل على سرعة امتثالهم لأوامر الله عز وجل دون سؤال عن الأسباب، ومن ثمّ الصبر والاحتساب.

 

هذا الموضوع موضوع مهم، وهو نقطة فاصلة فى حياة كل الناس.

الله تعالى جلّ جلاله يبتلى عبده المؤمن لأنه يُحبُّ أن يستمع إليه وهو يشكره، يشكره على البلاء كما يشكره على السراء، الأمراض فيها رحمات، الفقر فيه رحمات، السَّجن فيه رحمات، كل المصائب والابتلاءات التى تحدث فى حياة البشر تتبعها الرحمات، فالله عز وجل قال لنا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} لم يقل بعد العسر، ولكنه قال مع العسر مباشرة، أى أن اليسر ملازم للعسر، أليس هذا فضلًا من الله الكريم؟ بلى والله إنه للفضل العظيم، والكرم الكبير.

حكمة اليوم كانت بعنوان: الإيمان الحقُّ فى قلة الشكوى، وكثرة الشكر، اللهم اجعلنا من الشاكرين نعمائك، والصابرين على بلائك، ولا تجعلنا نشكو لأحد غيرك يا رب العالمين، واجعلنا نرضى بك ربًّا وإلهًا وحاكمًا، نشكرك فى البلاء، ونشكرك فى الضراء، ولا نشكوا حالنا إلا إليك وأنت رب العالمين.

{رَ‌بِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّ‌يَّتِي ۚ رَ‌بَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَ‌بَّنَا اغْفِرْ‌ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

يؤتى الحكمة من يشاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ