الخلوة مطلب شرعىٌّ وما نفع القلبَ شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان الفكرة

الحكم الربانية
طبوغرافي

الحكمة السادسة عشرة وهى من حكم الإمام الشيخ بن عطاء الله السكندرى. يقول الشيخ : "الخلوة مطلب شرعى وما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان الفكرة" يعنى ميدان التأمل.

 حكمة اليوم حكمة بديعة لأنها داخلة فى باب تزكية النفس.

يتكلم الشيخ عن أدب العزلة أو عن أدب الاختلاء عن البشر، أو أدب الخلوة، ويقدم فكرة مهمة فى تربية الإنسان المسلم. وأساس هذه الفكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتزل الناس، وتحنث فى الغار على مدى سنوات عديدة كان يترك فيها مكة وصخبها وضجيجها ومعاصيها، ويذهب إلى غار حراء يجدد إيمانه، يذكر ربه، ويتأمل أحوال الكون، ويتقرب إلى الخالق سبحانه وتعالى.

 الخلوة مطلب شرعى، لماذا؟ لأن الإنسان فى أوقات يومه يحتاج إلى أن يذاكر مع نفسه، طالب العلم إذا لم يجلس على كتابه، ويخلو بكتابه ثلاث أو أربع أو خمس ساعات فى اليوم فلن يتميز، يحتاج لخلوة مع الكتاب، يخلو مع الكتاب فى غرفة فى مسجد، في البيت، في أى مكان كما كنا نفعل، المهم أن يخلو بالكتاب. هذا الاختلاء هو الذى يتيح له أن يعايش الأفكار، ويدخل ميدان الفكرة،  فهى مطلب شرعى.

 المسلم له أوراد يوميًّا يجب أن يؤديها، يحتاج فى الصباح إلى نصف ساعة،                                                                       وفى الليل إلى نصف ساعة، يعتزل فيها الناس تمامًا، يجلس مع نفسه يذكر، ويذاكر، ويتذكر، ويتأمل، ويجدد إيمانه.

"وما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان الفكرة" لذلك يقول الملك سبحانه وتعالى لسيدنا صلى الله عليه وسلم : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} هذا أساس شرعى فى موضوع العزلة.

 العزلة أيها الكرام أو الخلوة مع الله سبحانه، وتعالى لتصفية القلب، مرحله مهمه جدًّا فى حياة الصادقين مع الله لأنه لو ظل أربعة وعشرين ساعة مندرجًا مع الناس وعايش الحياة بكل سقطاتها وسفاسفها، وصخبها سيعود للوراء.

مثل قائد الجيش الذى يخطط للحرب، لا بد له من خلوة يجلس فيها مع نفسه، ويرتب أموره، ويعيد كل حساباته في هذه الخلوة كى لا يشتته أحد، ولا يعيق تفكيره أحد من الناس، ثم بعد ذلك يخرج فيشاور من معه.

 

يجلس الإنسان يعصر فكره، يخرج الأفكار التى عنده، يجلس مع نفسه فيخرج أفضل ما عنده.

 فى هذه الحالة يؤكد الشيخ على شىء مهم جدًّا، وهو أن هذه العزلة تجدّد خلايا الجسم،  وتنهض بالإنسان،  فيتذكر أحواله ومعاصيه وواقعه وحاله، فيبدأ يغير نفسه، ولأجل هذا سلمك الله وأعزك وأذاقنا الله وإياك حلاوة الإيمان جميع الأفكار التى هزت البشرية، كالذى اخترع التليفزيون، أو اخترع الكمبيوتر، أو اخترع أى

شيء، جلس مع نفسه طويلًا وظل يجرب من الناحية النظرية، والناحية العملية إلى أن يهديه الله سبحانه وتعالى.

"الصدق فى التأمل" وهذه مسألة مهمه جدًّا، يرى الشيخ الإمام أن الإنسان المسلم إذا لم يكن له خلوة مع الله حتى لو لدقائق فى الصباح وفى المساء، فإن قلبه يضعف، لأن قلبه مشغول بالعمل والناس، والقيل والقال، فيحتاج الشخص أن يترك الدنيا، وينأى بنفسه بعيدًا يهذبها ويزجرها كى يعيدها إلى سريرتها الأولى، وإلى سيرتها الأولى.

 هناك فرق بين ما سماه الشيخ الخلوة أو العزلة الروحية، وبين الرهبنة.

الرهبنة التى كانت، ومازالت عند النصارى معناها أن يدخل الإنسان فى دير أو في معبد أو فى كنيسه، ويجلس فيها، ويعتزل الدنيا والنساء، هذا ليس عندنا فى الشريعة الإسلامية.

 عندما ذهب عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب الرهبنة حيث قال : يا رسول الله نقطع مذاكيرنا، ونعتزل النساء، فلم يوافق النبى صلى الله عليه وسلم على هذا، والقرآن الكريم يضعنا هنا فى موضع عدم المغالاة فى الدين، وعدم المبالغة فى الدين، وعدم تحريم الطيبات، فالله تعالى يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ}.

الشيخ أيها الأحباب لا يقصد بالخلوة أو بالعزلة أن يعتزل الإنسان الناس اعتزالًا بالكلية، إنما عزلة متقطعة في الأوقات التى ترى قلبك فيها ميتًا من الاهتمام بالناس والحياة والمشاكل، فتخلو إلى نفسك في حالة هادئة فى المسجد، أو فى بيتك، أو فى مزرعتك، أو فى أى مكان ترى نفسك فيه محتاج إلى الخلوة، فتجلس مع نفسك جلوسًا روحيًّا ارتقائيًّا مع مصحفك، مع مسبحتك، مع أذكارك: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} والتبتل هنا حالة من المؤازرة النفسية، الشخص يحتاج أن يرتقى نفسيًّا ، يحتاج أن يجدد نفسه، قال النبى صلى الله عليه وسلم : ـ"جددوا إيمانكم، قالوا وكيف نجدد إيماننا يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام: أكثروا من قول "لا إله إلا الله ".

ترك النبى السيدة جويريه بنت الحارث بعد صلاة الفجر جالسة، ومعها الحصى أو النوى تسبح بالحصى -كالمسبحة في عصرنا هذا- تسبح وتعد، وظلت جالسه فتره طويلة حتى عاد إليها النبى صلى الله عليه وسلم، فقال لها أما زلت على الحالة التى تركتك عليها؟ يعنى لازالت معتزلة الناس كل هذا الوقت، فقالت له نعم يا رسول الله، هذا استنباط أن الصحابة كانوا يمكثون وقتًا طويلًا مع الله، إما فى الذكر أو التأمل الذاتى، أو فى مراجعة النفس أو فى استنهاض الهمم.

وكل هذا لا يأتى والإنسان معلق من رقبته فى دهاليز الحياة، وتائه فى أنفاق المشاكل لا، هو محتاج يوم الجمعة أن يبكر فى الذهاب إلى المسجد، كما حثنا النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك.

ما معنى ميدان الفكرة؟، أى أن الأفكار النافعة تحتاج إلى معايشة، يتأمل الإنسان فيها ولا يكلم أحدًا، يعتزل الناس تمامًا، عند ذلك يبدأ الذهن يحدث فيه شيء من الفتح والإلهام، وبعدها تخرج الفكرة، هذا الذى قصده الشيخ.

أو شخص آخر عنده أذكار معينة، وعنده أوراد معينة، ألزم نفسه بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم مثلًا، ألف مرة، إذًا فهو يحتاج إلى عزلة بينه وبين نفسه.

كل منا يحتاج إلى خلوة بينه وبين نفسه، كى يصلح فساد قلبه، ويلم شتات نفسه، ويغير عيوب نفسه.

والخلوة أيها الأحباب تحتاج إلى حضور ذهنى، وتحتاج إلى صفاء نفسى، وهذه الخلوة تُخرج الإنسان شخصًا آخر، تجعله يفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل.

أنت تحتاج أن تغلق على نفسك باب غرفتك أو تجلس في أحد زوايا المسجد البعيدة لبعض الوقت، يكفيك وقت قليل فى الصباح، وفى المساء، وتنتظم على هذا المنوال في كل يوم، ولن يأخذ هذا من وقتك سوى دقائق قليلة فقط، فالذين كانوا قبلنا، كانوا يعتمدون منهجًا من خاصًّا الخلوة:

{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} هذا المنهج كان موجودًا قبل بعث النبى صلى الله عليه وسلم، ولكن الإسلام لم يوافق علي هذا المنهج بأن يمنع الإنسان نفسه عن الكلام ثلاثة أيام، وإنما التفرغ النفسى، والتفرغ الروحى، هو الذى أشار إليه الشيخ: "ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان الفكرة" بمعنى: أن يعود ليبحث عن أفكاره من خلال هذه العزلة الصافية مع النفس.

حكمة اليوم حكمة مهمة جدًّا لأن جميع الناس محتاجون إليها لكى يجددوا، ويبدعوا، ويذكروا، ويشكروا، ويتعلموا.

{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ}