الحكمة 240 للفضيلة ليس بعد الفرائض أفضل من طلب القرآن الكريم والعلم

الحكم الربانية
طبوغرافي

 

الحمد لله رب العالمين حمدًا لا ينبغي إلا لك وحدك، وشكرًا لا ينبغي إلا لك وحدك، سبحانك؛ تواضع كل شيء لعظمتك، وذلّ كل شيء لعزّتك، واستسلم كل شيء لإرادتك،

والصلاة والسلام على خير البُلغاء، وسيد الأنبياء، وإمام الأتقياء الأنقياء، وعلى آله الطيبين وصحابتة الغرّ الميامين.

هذه هي الحكمة الربانية الأربعون بعد المائتين للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول: "ليس بعد الفرائض أفضل من طلب القرآن الكريم والعلم"، فأعظم رسالة على وجه الأرض أن تحفّز الناس وتحببهم في كلام الله تعالى، والقرآن الكريم هو رسالة الله تعالى إلى الخلق، وكل منّا يأخذ من القرآن الكريم على قدر اتصاله بالله تعالى وتعلقه به.

أهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته الذين جعل الله تعالى قلوبهم جميلة طيبة هادئة رقراقة، وليس كل الناس مستعدين ولا مؤهلين لحفظ القرآن الكريم، ليس لغرابته ولا لأعجميته، فالقلوب تتّسع للقرآن الكريم، ولأنواره على قدر حبّها لله تعالى، وللنبي صلى الله عليه وسلم،

وكثير من الناس يحفظون القرآن الكريم، ثمّ يُسلبون النور الذي أعطاهم الله تعالى إياه.

وبعض الناس يفتخر أنه كان حافظًا للقرآن الكريم في صغره، رغم أنها سُبّة في جبينه ومنقصة في قلبه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)} الأعراف، أنا أشرف على أكثر من ثلاثين دارًا ومعهدًا للقرآن الكريم، ولله الحمد أننا نُخرّج كل عام آلاف الحفاظ خاصة من البنات، ثم تسأل عن الحافظين؛ فإذا بهم دهستهم الحياة، ولم يعودوا من أهل القرآن الكريم.

خدعوك فقالوا: إنّ القرآن الكريم يعطّل عن مسيرة التقدم، فهذا خطأ كبير فالقرآن هو التقدم كله، وهو العلم كله، وهو الخير كله، ومن أراد أن تقوى همته وعزيمته؛ فإنّ القرآن الكريم يكون غايته، ولم أرَ أنجع ولا أنجح لتطييب النفس ومعالجة خللها وإعادتها إلى فطرتها إلا بكتاب الله تعالى.

يعتقد الآباء والأمهات أن تعلم الأبناء القرآن الكريم يعطّلهم عن الدراسة، ويقلل من درجاتهم، ويستحيل أن يكون القرآن الكريم معطلًا عن التفوق والتميز، فالقرآن الكريم يقوي ذكرك وذاكرتك، ويقوي عقلك، وينير فؤادك، ويأخذ بيدك من الحضيض الأسفل، إلى مرضاة الله تعالى.

القرآن الكريم يعطيك دفعة أن تكون في رفقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، والإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان فريدًا في عصره وبابه، وكان شمسًا لا تغيب، وكان عطاءً ليس له حدود، قال: "أفضل ما في الإسلام بعد الفرائض هو طلب القرآن الكريم"، كل بيت مسلم لا بد أن يكون بيتًا قرآنيًا كما قلنا سابقًا في محاضرة: "في بيتنا كُتّاب": كل بيت مسلم لا بد أن يجلس ساعة في الصباح يتأمّلون وردهم اليومي ومثله في المساء.

تحفيظ القرآن الكريم لا يكون بالحفظ، ثم ندع المصاحف يعلوها الغبار، إذن لا بدّ أن تصحب المصحف، وأن يكون وردك اليومي لا يقل عن خمسة أجزاء، لمن حفظ من أمثالك،

ولو راجع العوام جزءًا واحدًا لا ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} الفرقان.

وكل مسلم لا بد أن يقرأ جزءًا أو جزأين يوميًا، وإن لم يفعل عُدّ هاجرًا للقرآن الكريم، وأهل القرآن لا بد أن تكون لهم عناية خاصة بحبّ القرآن الكريم، وإذا لم يفعل، فإنها الطامّة الكبرى، وقد تفلّت القرآن الكريم من قلبه.

اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد العصيان.. بعد أن استقام الإنسان واهتدى وصار عبدًا صالحًا ربانيًا ووصل إلى حالة الحالّ المرتحل؛ فإذا به يعود القهقري

قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} طه.

يقول العلماء: ليس بالضّرورة أن يكون النسيان نسيان ذاكرة، ولكن قد يكون نسيان الوسائل التي تساعدك على حفظ القرآن الكريم، فالبنت التي كانت معنا تحفظ القرآن الكريم بعد زواجها؛ كأنّ زوجها اشترط عليها أن تنسى القرآن الكريم، كما أن المجتمع عندنا يتواصى على حبّ القرآن الكريم، وقارئ القرآن الكريم يحب أن يسمع الدنيا كلها، ويتنقل به من بلد إلى بلد، ومن مسابقة إلى مسابقة كما كنت أفعل.

ومما عمّق حبّ القرآن الكريم في قلبي، أن المصحف لم يكن يغادرني، ولا يفارقني في القطار، وكنت أقف على قدم واحدة لازدحامه، والمصحف في يدي الأخرى، وكنت أقف وقتًا طويلًا جدًا وأنا مستمع أن الله تعالى شغلني بالقرآن الكريم في حين أن غيري قد دهسته الحياة، وأكلته الذنوب، فلو سألتني الآن في أي موضع في القرآن الكريم سأجاوبك وأجمع لك كل المتشابهات في لحظة واحدة.

القرآن الكريم هو حياتي وأملي وصناعتي وتجارتي، وهو الحالّ المرتحل الذي أعيش به، عَنَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: قَالَ رَجُلٍ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ الْعَمَلِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ؟ قالَ «الْحَالُ الْمُرْتَحِلِ»، قَالَ: وَما الْحَالُ الْمُرْتَحُلُ؟! قالَ «الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إلى آخِرِهِ، كُلَّما حَلَّ ارْتَحَلْ».

وإن الله تعالى يسلمك من الدنيا ومن أدرانها ومتاعبها وشقاوتها، ولو سلّمت نفسك للقرآن الكريم فإنك منتصر في دنياك وآخرتك، وعندما تندمج في الدنيا اندماجًا كبيرًا وتبالغ في الاندماج فيها؛ فإن أسرع ما يتسرّب منك هو كتاب الله تعالى.

في جيلنا كان نادرًا أن ترى أحدًا إلا ومعه مصحف يقرأ فيه، وإذا يممت وجهك الآن سترى كل طفل يحمل محمولًا أكبر من رأسه ويتوسّده ويحتضنه، وفي جيلنا كنت أمشى حول جامعة الأزهر وجامعة القاهرة، فأرى كل طالب يحمل المصحف في يده، أما الآن فهيهات هيهات!!

تمنيت أن يكون المصحف موجودًا في يد كل إنسان لا يفارقه قولًا وعملًا وتحقيقًا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) } فاطر.

إذا متّ والقرآن الكريم في قلبك وصدرك فلعل الله تعالى يجعل من أولادك وأحفادك من هو على شاكلتك في التعلّق بالقرآن الكريم، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} فاطر.

الله تعالى يرضى لك أن يكون قلبك منشغلًا بالله تعالى، وأفضل العبادات على الإطلاق بعد الصلوات الخمس هي طلب القرآن الكريم، فإذا أحسنت في خدمة القرآن الكريم ووعاه بيانك وجدت فيه نور حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

كل هذه المعاني لا يدركها إلا من تعايش مع القرآن الكريم، وقرأه حق تلاوته على مستوى الحب والمتابعة وتطبيق حقوقه، وأفضل البضاعة التي تعود بها إلى الله تعالى هو كتاب الله عز وجل، وكل تجارة لها حدود في المكسب، أمّا التجارة مع الله تعالى، فإنّ الذي يكافئ عليها هو الله تعالى.

لا بد أن يكون طلبك في حفظ القرآن الكريم رغبة منك أنت لكي ترقى بالقرآن الكريم وتنعم به، والكارثة الكبرى أن تأخذ أجازة من القرآن الكريم، أو تقول: لقد خرجت على المعاش، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} الحجر.

الملائكة عليهم السلام تتلقاك عند الممات بالقرآن الكريم الذي حفظت، وأنا لا أطلب منك التفرغ للقرآن الكريم، ولكن أطلب منك أن يكون له مكانة في قلبك، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} الفرقان.

كلما ذكرت القرآن الكريم رفعك الله تعالى به، قال تعالى: {وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} الزخرف.

كل آية لها مقام عند الله تعالى، فعن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو بن العاص رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا فإِنَّ مَنْزِلَتكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا)).

وقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا ، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)).