التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة آل عمران: الآيات من 50- 61

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

 الفضيلة أخيرة 33

قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) } [آل عمران من 50-61].

خطاب عيسى عليه السلام لقومه:
قال – تعالى - : { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}.

إن (مصدقا) تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في التوراة ، إن (ما بين يدي) الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة.

وقد يقول قائل: إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب، هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام.

ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام. ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله.

إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك قال الحق: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} [النساء: 160].

وتفصيل ذلك في آية أخرى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].

إذن التحريم ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل.

وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، إنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لابد أن يكون مبعوثا من الله. فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله.

أنصار الله ومكر أعدائه:
أنَّ عيسى عليه السَّلام لَمَّا وجَدَ من بني إسرائيل إعراضًا عن دعوتِه، وعلِم بكُفرهم بنبوَّته، استنصرَ أصحابَه قائلًا: مَن يُعاونني ويَنهضُ معي بالدَّعوة إلى الله ونُصرةِ دِينه، فأجابه صفوةُ أصحابه بأنَّهم أنصارُ دِين الله تبارَك وتعالَى وأعْلنوا إيمانهم وأَشهَدوا عيسى عليه السَّلام على إسلامِهم، ودعَوْا ربَّهم متوسِّلين بإيمانهم بما أنزل، واتِّباعهم لعيسى عليه السَّلام، أنْ يَكتُبَهم مع مَن شهِد له بالوحدانية ولرُسلِه بالصِّدق واتَّبَعوا أوامرَه واجتنَبوا نواهيَه.

ثمَّ يُخبر تبارَك وتعالَى عن مَكرِ مَن كَفَر بعيسى عليه السَّلام مِن بني إسرائيل وتَمالُئِهم على قَتْله ومَكْرِه بهم مُقابلةً لمكرهم؛ حيث ألْقى شَبَهَ عيسى عليه السَّلام على رجلٍ آخرَ، فقتلوه ظانِّين أنَّه هو فكان مكرُ الله أقوى من مَكرِهم وأشدَّ، ثمَّ يذكر قوله لعيسى، أنَّه متوفِّيه وفاةَ نوم ورافعُه إليه برُوحه وبدنِه ومُخرِجه من بين الَّذين كفروا، ومُنجِّيه منهم وأنَّه سيجعل الَّذين اتَّبعوه فوقَ الَّذين كفروا بالحُجَّة والبرهان، وبالعزَّة والغَلَبةِ إلى يومِ القيامة وأنَّ إليه المصيرَ والمرجعَ فيَقضي بينهم؛ فالَّذين كفروا يُعذِّبهم عذابًا أليمًا في الدُّنيا والآخرة أمَّا عذابُ الدُّنيا فما أَقدَرَه عليهم من قتْلٍ وسَبْيٍ وذِلَّة وضِيقٍ وضنكٍ وغيره! وأمَّا عذابُ الآخرة فبِنَارِ جهنَّم وليس لهم مَن يَنصرُهم أو يمنع عنهم العذابَ الأليم.

وأمَّا أهلُ الإيمانِ والعملِ الصالح فأولئك يُوفِّيهم أجْرَهم دون نقْصٍ: في الدُّنيا بالنَّصرِ والتَّمكين وفي الآخِرَة بالجنَّة والرِّضوان من الله تبارك تعالى واللهُ لا يحبُّ الظَّالمين؛ فكيف يظلِمُ خَلْقَه؟!
ثمَّ يقول اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذه الأنباء والقصصَ الَّتي أخبر الله بها عن عيسى عليه السَّلام وأمِّه مريم نتلوها عليك- يا محمَّدُ- وهي من العلامات والبراهين الدَّالَّة على صِدقِك ونبوَّتك، ومن القُرْآن المُحكَم المتقَن.

شبهة وفاة عيسى عليه السلام في قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} الآية هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة ودلّت على صدقه الأحاديث المتواترة واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير أنه الحق من أن قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت ولا يدل على كونه قد مضى وهو مُتَوَفّيه قطعاً يوماً ما ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى وأما عطفه {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} على قوله: {مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل عليه لإطباق جمهور اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع وإنما تقتضي مطلق التشريك وقد ادّعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أبدأ بما بدأ الله به)) يعني الصفا لا دليل عليه على اقتضائها الترتيب وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية بدليل الحديث المتقدم.

وقد يراد بها المعية كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني: أنّ معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إليّ أي في تلك النومة وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا..” .

الوجه الثالث: أنّ {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم: “توفّى فلان دينه” إذا قبضه إليه.. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا قابضك منهم إلي حيا وهذا القول هو اختيار بن جرير. وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائليات وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها.

بين عيسى وآدم عليهما السلام:
قال – تعالى - : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

يَقُول جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه} فِي قُدْرَة اللَّه حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْر أَب {كَمَثَلِ آدَم “ حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْر أَب وَلَا أُمّ بَلْ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} فَاَلَّذِي خَلَقَ آدَم مِنْ غَيْر أَب قَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُق عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِنْ جَازَ اِدِّعَاء الْبُنُوَّة فِي عِيسَى لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْر أَب فَجَوَّزَ ذَلِكَ فِي آدَم بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَمَعْلُوم بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِل فَدَعْوَاهُ فِي عِيسَى أَشَدّ بُطْلَانًا وَأَظْهَر فَسَادًا وَلَكِنَّ الرَّبّ جَلَّ جَلَاله أَرَادَ أَنْ يُظْهِر قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِين خَلَقَ آدَم لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى وَخَلَقَ حَوَّاء مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ كَمَا خَلَقَ بَقِيَّة الْبَرِيَّة مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم {وَلِنَجْعَلهُ آيَة لِلنَّاسِ} وَقَالَ هَهُنَا: {الْحَقّ مِنْ رَبّك فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ}.

المباهلة معناها وشروطها:
قال ابن منظور: «البَهْل: اللعن، وبَهَله الله بَهْلاً أي: لعنه، وباهل القوم بعضهم بعضاً وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والمباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت فلاناً: أي لاعنته»
وقال الراغب الأصفهاني: ((والبهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه، والتضرع؛ نحو قوله عز وجل ـ: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61]، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن.

والخلاصة: أن معنى المباهلة في اللغة: الدعاء باللعنة بتضرع واجتهاد.
وبعد التأمل في الآية الكريمة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].

وما ورد في تفسيرها من الأحاديث والآثار، ومن خلال ما سبق من كلام أهل اللغة يتبين أن المراد بالمباهلة الشرعية: هي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء مصطحبين أبناءهم ونساءهم فيدعون الله تعالى أن يحل لعنته وعقوبته بالكاذب من الفريقين.

سلك القرآن الكريم هذا الأسلوب المباهلة في مجادلة المشركين المبطلين الذين يتكبرون عن قبول الحق، ويصرون على باطلهم وضلالهم مع قيام الحجة عليهم، وظهور الحق لهم؛ حيث أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يباهل نصارى نجران حينما جادلوه في أمر عيسى عليه السلام فلم يقبلوا الحق الذي جاء به من عند الله تعالى بل أصروا على عقيدتهم الفاسدة، ومقولتهم الباطلة في عيسى عليه السلام.

قال تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْـمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْـحَقُّ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ (62) فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْـمُفْسِدِينَ}.

في هذه الآيات الكريمة يقول الله تعالى منكراً على النصارى الذين يزعمون أن عيسى عليه السلام إله أو ابن إله: {إنَّ مَثَــــلَ عِيسَى عِنـــــدَ اللَّهِ} [آل عمــــــــــــران: 59]، في قــدرتـه سبحانه على خلقه من غير أب {كَمَثَلِ آدَمَ}؛ حيث خلقه جل وعلا من غير أب ولا أم، بل {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}؛ فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى عليه السلام من غير أب بطريق الأوْلى والأحرى.

فإن كانت شبهتكم في ادعائكم بنوة عيسى عليه السلام أنه خلق من غير أب فإن آدم أحق بذلك منه وأوْلى؛ لأنه خلق من غير أم ولا أب، ومع ذلك فقد اتفق الناس كلهم على أنه عبد من عباد الله، وأن دعوى بنوته باطلة؛ فدعوى ذلك في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً.

وهذا من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه».

وهذا الأسلوب من الأقيسة الإضمارية التي استخدمها القرآن الكريم في مجادلة الخصم، «وهي التي تحذف فيها إحدى المقدمات مع وجود ما ينبئ عن المحذوف».

ثم بيّن سبحانه وتعالى أن ما ذكره في شأن عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه هو القول الحق الذي لا ريب فيه، لا كما يزعم النصارى من أنه إله أو ابن إله؛ كما نهى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشك في أمر عيسى عليه السلام بعدما جاءه البلاغ المبين من ربه عز وجل.

وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الشك منه له فائدتان:
إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأرْيَحيَّة فيزداد في الثبات على اليقين نوراً على نور.

والثانية: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عما يورث الامتراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته وعلو قدره خوطب بمثل هذا فكيف بغيره؟».
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته.

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من جادله في شأن عيسى عليه السلام بعد قيام الحجة عليه، وظهور الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة؛ «وذلك بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهــم وأبنائهــم ثم يدعــون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين».

وإنما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو مختص به وبمن يباهله؛ لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكادية بالعدو، وأوفر إضراراً به لو تمت المباهلة»
ثم أكد سبحانه وتعالى صدق ما قصه وأخبر به من أمر عيسى عليه السلام وأنه هو الحق الذي لا جدال فيه، لا ما يدّعيه النصارى وغيرهم، مبيناً سبحانه أنه هو المتفرد بالربوبية المستحق للألوهية، وأنه هو العزيز في ملكه، الحكيم في تدبيره.

وفي ختام الآيات هدد الله تعالى نصارى نجران الضالين إن هم أعرضوا عن الحق بعدما تبين لهم في هذه الآيات البينات التي سمعوها فلم يرجعوا عن دينهم الباطل وقولهم الفاسد، مبيناً أنه عليم بهم، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، بل يحصيها عليهم ثم يجازيهم بها.

وقد أخـرج البخاري في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما: لا تفعل؛ فوالله لئن كان نبياً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وأبعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين، فاستشرف له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح! فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا أمين هذه الأمة»

وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بملاعنتهم دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن تفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصال منكم إن فعلتم؛ فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألاَّ نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضى».

وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله تعالى ـ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61]: «فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا، فخرج معهم، فلم يخرج يومئذٍ النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو خرجوا لاحترقوا، فصالحوه على صلح: على أن له عليهم ثمانين ألفاً، فما عجزت الدراهم ففي العروض: الحُلَّة بأربعين، وعلى أنه له عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً، وثلاثاً وثلاثين بعيراً، وأربعة وثلاثين فرساً غازية كل سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتى نؤديها إليهم».

وأخرج مسلم في صحيحه مـن حـديث سـعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي)).

شروط المباهلة:
يشترط للمباهلة شروط خمسة لا بد من توافرها قبل أن يقدم الإنسان عليها
1-إخلاص النية لله تعالى فإن المباهلة دعاء وتضرع إلى الله تعالى كما تقدم، ولا بد لقبول الدعاء من إخلاص النية فيه لله تعالــى كما هــو الشأن في جميــع العبادات.

2-العلم؛ فإن المباهــلة لا بد أن يسبقها حــوار وجــدال، ولا جدال بلا علم.
قال القرطبي: «في الآية دليل على المنع عن الجدال لمن لا علم له ولا تحقيق عنده».
3-أن يكون طالب المباهلة من أهل الصلاح والتقى؛ إذ إنها دعاء، ومن أعظم أسباب قبول الدعاء الاستجابة لله تعالى بفعل الطاعات واجتناب المحرمات كما قال تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

4-أن تكون بعد إقامة الحجة على المخالف، وإظهار الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة؛ فإذا أصر على رأيه وبقي على ضلاله وعناده، ولم يقبل الحق، ولم تُجْدِ معه المحاورة والمناقشة؛ فعند ذلك يأتي دور المباهلة، وتقدم قول ابن القيم رحمه الله ـ: «إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة».

5-أن تكون المباهلة في أمر مهم من أمور الدين، ويرجى في إقامتها حصول مصلحة للإسلام والمسلمين، أو دفع مفسدة كذلك.