علاج الانفعالات النفسية وفق المنهج الإيماني

تنمية بشرية
طبوغرافي

إن من أهم وأخطر آثار الوسواس القهري الانفعالات النفسية، حيث إن الإنسان الموسوس يعاني من كثير من الأزمات النفسية، مثل الانطواء والخوف من المجتمع، وعدم الثقة في الآخرين، وكثرة الشكوك فيمن حوله من الناس، والمبالغة الزائدة في الخوف على أبنائه وذويه، والمبالغة في كثير من الأمور الأخرى كالنظافة، والتأكد أكثر من مرة من تأمين نفسه وبيته وإحكام غلق النوافذ والأبواب بصورة غير طبيعية، ومن أخطر وأكبر هذه الآثار المدمرة للوسواس القهري شدة الانفعالات النفسية، والتوترات العصبية، لأنها قد تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في المشكلات الكبيرة مع من حوله من الناس، مما قد يؤدي به إلى التعرض للأذى النفسي والجسمي، فضلا عن تضرر الآخرين بسببه، فقد تؤدي الانفعالات النفسية بالإنسان إلى الوقوع في الجرائم مثل القتل، أو الاغتصاب، أو الاعتداء على الآخرين بالضرب أو الإيذاء، أو تدمير الممتلكات.. أو نحو ذلك.

آثار الغضب على الإنسان:

الغضب بين الحلال والحرام..

  يكون الغضب مذموما إذا كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية، وانتشار حلق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور، وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جليا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر!! سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه فالحق عندهم ما وافق هواهم والباطل ما حدَّ من مبتغاهم قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52) .

والغضب المباح يكون في غير معصية الله – تعالى- ولم يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134) ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله - عز وجل - يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها: قد كظمت غيظي . قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال لها: قد عفا الله عنك. قالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: اذهبي فأنت حرة.

درجات الناس في قوة الغضب:

الأولى: التفريط: ويكون ذلك بفقد قوة الغضب بالكلية أو بضعفها.

الثانية: الإفراط: ويكون بغلبة هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين ولا تبقى للمرء معها بصيرة ونظر ولا فكرة ولا اختيار.

الثالثة: الاعتدال: وهو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين.

علاج الغضب والانفعال النفسي:

أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: 36)، وعن سليمان بن صرد - رضي الله عنه – قال: كنت جالسا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد))، فقالوا له: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال :(((تعوذ بالله من الشيطان)) فقال: وهل بي جنون؟ . قال ابن القيم - رحمه الله تعالى –: " وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته".

ثانيا : تغيير الحال

عن أبى ذر - رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)).

ثالثا : ترك المخاصمة والسكوت

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((علموا وبشروا ولا تعسروا وإذا غضب أحدكم فليسكت)). قال ابن رجب - رحمه الله تعالى- : "وهذا أيضا دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده.

رابعا: الوضوء

عن عطية السعدي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن الغضب من الشيطان؛ وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).

وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – مرفوعا: ((ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق وضوء)).

سادسا: الإكثار من ذكر الله تعالى

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، فمن اطمئن قلبه بذكر الله تعالى كان أبعد ما يكون عن الغضب، قال عكرمة - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف:24) " إذا غضبت ".

سابعا : العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني . قال ((لا تغضب))، فردد مرارا قال: ((لا تغضب)). وهنيئا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله تعالى-: "هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- بكلام كلي، ولهذا ردد، فلما أعاد عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم-، عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك ؟ فإن قوله : ( لا تغضب ) يتضمن أمرين عظيمين: أحدهما: الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي. فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه، فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه . الثاني: الأمر - بعد الغضب - أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالبا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب. فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية والقوة القلبية .

ثامنا : النظر في عواقب الغضب السيئة:

فكثير الغضب تجده مصابا بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الند ". وقيل: من أطاع الغضب أضاع الأرب.

قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز: "وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة".

تاسعا : أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال ((ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)). قال ابن القيم –رحمه الله تعالى –: "أي مالك نفسه أولى أن يسمى شديدا من الذي يصرع الرجال".

وقال ابن تيمية – رحمه الله تعالى –: "ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد".

وعن أنس -رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مر بقوم يصطرعون فقال: ((ما هذا))؟ فقالوا: يا رسول الله فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم –: ((أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه)).

عاشرا: قبول النصيحة والعمل بها

فعلى من شاهد غاضبا أن ينصحه، ويذكره فضل الحلم، وكتم الغيظ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما- استأذن الحر بن قيس العيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزْل (أي العطاء الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله. قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل؛ ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحا قويا، ويشق ثيابه، ويلقي ما في يده؛ دفعا لألم الغضب، وإلقاء لحمه منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء، وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها.

الحادي عشر: أخذ الدروس من الغضب السابق

فلو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده قال ابن حبان – رحمه الله تعالى –: "سرعة الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زي العقلاء، والغضب بذر الندم فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب ".

 

الثاني عشر: اجتناب وإزالة أسباب الغضب: وقد ذكرت جملة منها.

قال الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى –: "ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم: السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى من المكاره التي لا يمكنه ردُّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون ".

صور من هدي السلف عند الغضب

سب رجل ابن عباس - رضي الله عنهما – فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى.

وقال أبو ذر – رضي الله عنه - لغلامه: لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجرا، أنت حر لوجه الله تعالى.

وأسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه – كلاما، فقال: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .

قال الأحنف بن قيس – رحمه الله تعالى – لابنه: يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه، فإن أنصفك وإلا فاحذره.

وقال محمد بن حماد الكاتب: فأعجب من ذا وذا أنني: أراك بعين الرضا في الغضب.

وروى عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر - رضي الله عنه - صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين).